القائمة الرئيسية

الصفحات

رئيس التحرير


بقلم: محمد وليد بركات


دهشة حقيقية انتابتني عندما اكتشفت أن مواليد عام 2000 على وشك التخرج في الجامعات هذا العام، إذ لم يعد يفصل بينهم وبينه سوى أشهر معدودات، هؤلاء الذين حملت شهادات ميلادهم أرقاما جديدة كل الجدة، فهم من أبناء قرن جديد، وألفية جديدة، أو بتعبير "زكية زكريا" التي جسدها إبراهيم نصر.. "الألفية الثالثة".


وفي محاضراته، طلب أحد الأساتذة من طلاب الفرقة الأولى ارتجال خطاب قصير أمام زملائهم لكسر حاجز الرهبة، وقد تابعت هذه الخطابات ورصدت أطروحاتها وكذلك أساليب تقديمها، ولفت نظري تكرار أفكار بعينها بعدة عناوين، إذ حفلت بالحديث حول: "الرضا بالذات، قبول النفس، التنمر بالآخرين، ..إلخ"، كما أن الأساليب عموما اتسمت في أغلبها بالركاكة اللغوية، وبروز المصطلحات الأجنبية والمعربة، أو ما يطلقون عليه "الألفاظ الشبابية"، ويصمه الكبار بـ"المبتذلة".


أتاحت لي ظروف عملي في الجامعة الاحتكاك المباشر بهذا الجيل، وبدت لي ثمة فروق نسبية حتى بين مواليد 2000 من طلاب الفرقة الرابعة، ومواليد 2003 من طلاب الفرقة الأولى، ربما ترجع الفروق إلى عدة أسباب، ولكن في رأيي إن هذا الجيل تتغير سماته بدرجة أكبر من عام إلى تاليه، مقارنة بغيره من الأجيال، ومن الاتصال الشخصي بنفس الدفعة، لمست عدة صفات تميزهم، وربما تميز جيلهم كله، وإن احتاج الأمر إلى دراسة أكثر عمقا وشمولا.


كانت أولى الصفات هي "التطرف"، ولا أعني من الجانب الديني، بقدر ما هو التطرف كأسلوب حياة، فهم متطرفون في المشاعر والسلوكيات نحو الأشخاص والأشياء وحتى الأفكار المجردة، فإما أن يفرطون في الحب أو يتعسفون في الكراهية، وإما أن يحترقون شغفا أو يمعنون في العزوف، وهلم جرا، وقد ترى أن تلك سمة مرحلة المراهقة، إلا أنني أظن أن تلك السمة ربما تمتد مع هذا الجيل إلى ما هو أبعد من مرحلة عمرية.


أما السمة الثانية فهي "الفضول"، فقد استغربني سؤالهم عدة مرات للأساتذة عن محتوى المحاضرة، أو محتوى المقرر الدراسي، حتى قبل أن ينطق الأستاذ بكلمة واحدة، ودون يتركوا له فرصة ليتحدث، ولم تكن لدى دفعتي، في نفس سنهم، منذ عشر سنوات فقط، هذا الفضول، ناهيك عن الجرأة، فكنا نقنع بما يُقدم لنا، ونفتح له الأذهان والأفئدة.


أما السمة الثالثة فليست بمعزل عن سابقتها، فهذا الجيل، يميزه "الاستعجال والتشتت"، فكما يتحمس سريعا، يعتريه الملل سريعا، فهو مشتت بين عشرات المثيرات الحسّية تتنازعه فيما بينها كل لحظة، جيل يشبه "التريند" على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم لا؟! وهي وسيلته الاتصالية المفضلة، وجليسه وونيسه الأثير، وربما نافذته للاتصال بالعالم، وحتى بأهله وأصدقائه الجالسين على بعد خطوات منه، إنه جيل الأكل "التيك أواي"، والتسخين في "المايكروويف".


وهذا الجيل أيضا مولع بـ"الاختيار"، فهو لا يقبل أن تُفرض عليه تفضيلات الآخرين، وإذا كان جيل التسعينات قد تفتحت عيونه على التليفزيون الفضائي، متعدد البدائل، فإن هذا الجيل قد تفتحت عيونه على الانترنت لامتناهي البدائل، إذا لم يعتد انتظار الأغاني والأفلام والبرامج في مواعيد عرضها التي تحددها القنوات، وإنما يبحث عنها ويختارها بنفسه، فهو ليس جيل ART وروتانا، وإنما يوتيوب ونيتفلكس.    


كل هذه السمات وأكثر أفرزت جيلا يتسم بـ"التنوع"، فإذا قلنا إن مواليد الخمسينات والستينات تجمعهم سمات مشتركة تشيع بينهم، ومواليد الثمانينات والتسعينات تجمعهم سمات أخرى، فمن الصعب تنميط جيل 2000 أو قولبته في نماذج مسبقة الطهو، وقبل أن تظن بي التناقض، عزيزي القارئ، فإنني لم أنكص على عقبيّ فيما ذكرته من صفات، وإنما هذه الصفات في جوهرها هي التي أفرزت سمة التنوع، فهي نتاج طبيعي للتطرف والفضول والاستعجال والتشتت والولع بالاختيار، إذا دققت النظر في دلالة كل سمة منهم.


وإذا كان جيل 2000 يحمل هذه السمات، فكيف بنا إذا حللنا جيل 2010، ثم 2020، كيف ستكون مشاربهم الثقافية، وأذواقهم الفنية، وعاداتهم الاجتماعية؟! هل نجد من بينهم، في عام 2024، حيث مئوية العمل الأول لأم كلثوم، متذوقا لفنها؟! إنني أتحدث هنا عن هؤلاء الذين تفتحت أعينهم على عقد من الثورات العارمة التي عصفت بإقليمهم، أفرزت حربا ضد الإرهاب، بتداعياتها السياسية والأمنية والاقتصادية.


ورغم أن الفروق الفردية سنة كونية بين البشر، إلا أن هذه السمات أعلاه واسعة الانتشار بين أبناء 2000 وما بعدها، تتطلب من الأجيال الأكبر سرعة انتباه أكبر، فـ"التطرف" يعني أنهم قد يرفعون شخصا إلى السماء وقد يخسفون به الأرض بمحض إرادتهم، دون أن يوقعوا "شيكات على بياض"، و"الاستعجال والتشتت" يعني أنهم بحاجة إلى فرص أكثر، بصبر أقل، و"الفضول" يعني أنهم لن يقنعوا بما يُلقى إلى سابقيهم من فتات البيانات والمعلومات، أما "الولع بالاختيار" فيعني أنهم لن يرتضوا بسقف منخفض لحرية العمل السياسي والإعلامي والعام، ولن يأكلوا إلا ما يشتهون، ولن يصدقوا إلا ما يعقلون، وأخيرا سيجعل "التنوع" منهم تحديا صعبا أمام كل من يحاول إلباسهم زيا ثقافيا أو سياسيا موحدا.


إن كل ذلك يجعلني أقول إن من شهدوا هذا العالم بعد 2000 مختلفون عمن شهدوه قبلها، وإن هؤلاء، بسماتهم الثقافية والنفسية، كفيض نهر يمكن أن يحمل الخير إن أحسنّا توظيفه وإدارته، ويمكن أن يكون وبالا على الجميع، إن أُسيئ تقدير حجمه وقوته واتجاهه، وتُرك لقوى الدفع الداخلية دون مسارات ضابطة، وهندسة اجتماعية حاكمة.

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. مقال رائع جدا من حيث الأسلوب والصياغة والفكرة والهدف.

    ردحذف

إرسال تعليق

شاركنا برأيك